هلا سيحول الامن سيناء الى تورا بورا جديده
فن صناعة المطاريد
وائل عبد الفتاح
مخبر سري في دكرنس يبدو أنه لم يسمع بقصة خالد سعيد، ولم تصله تعليمات بتغيير «بروجرام» المعاملة اليومية مع «الجمهور»، فألقي سواق «التوك توك» من الدور الثالث… عقاباً علي رفض «التوصيلة المجانية». القصة مكتملة إذن. مخبر سري أعطته قياداته سلطة مطلقة، شعر بالإهانة لأن السائق الضعيف رفض تلبية رغباته. السلطة …لا حدود لها، لكن المزاج العام في المجتمع لم يعد قابلاً لتلبية رغبات هذه السلطة للنهاية. السلطة لا تتوقف عن الانتفاخ الوحشي، بينما المجتمع يتوقف بالتدريج عن الرضوخ ولو دفع الثمن من حياته. التوقف التدريجي لا يعني فقط كسر الخوف والنزول في المظاهرات، بل الخروج عن طاعة السلطة، ورفض الظلم والإهانة. وهذه لحظة احتقان ملتهبة، نراها في قمة اشتعالها في سيناء التي حوّلتها الإدارة المتعجرفة الآن إلي «تورا بورا». إنه فن صناعة المطاريد. المطاريد فرادي في القاهرة ومدن الدلتا، يمكن أن يصطادهم جهاز الأمن بسهولة، وينتقم منهم إلي حد الموت انتصاراً لهيبة السلطة المنفوخة. لكنهم في سيناء تحولوا من «الغضب» العشوائي إلي «الحرب شبه المنظمة» من عصابات المطاريد في مخابئ سرية في جبال سيناء، حرب علي الطريقة الأفغانية، حيث جماعات متمردة بأسلحة بدائية في مواجهة سلطات منظمة، لكنها تجهل مسالك ودروب السيطرة علي جغرافيا مازالت غامضة وعسيرة. الجغرافيا تلعب لصالح المطاريد، والدولة حائرة بعد استنفاد محاولاتها القديمة في السيطرة علي قبائل سيناء من خلال أصابعها الحكومية من المشايخ والنواب. الأصابع احترقت إلي حد لم تعد معه مؤثرة. لم يعد اجتماع المجاملات كافياً، والمشايخ الحكوميون لم يعد لديهم ما يقدمونه بعدما انتقلت القيادة إلي من يسميهم وزيرالداخلية «عناصر إجرامية» أو «القلة المنحرفة الخارجة عن القانون». لم يتدخل سياسي واحد من الدولة لإنهاء «حرب العصابات» في سيناء التي استعادتها الإدارة المصرية نهائيا في 1989، وظلت من يومها ترتبط ارتباطاً صعباً مع جسد الدولة، خاصة أن جنوبها أصبح مقرا شبه دائم لرئيس الجمهورية، وهو ماعزز سطوة الحس الأمني، ومع غياب حس الدولة بقطعتها العائدة، تضخم سوء التفاهم، وغابت خطة التنمية، ووصلت البطالة إلي مايقرب من 100%. فراغ سياسي قاد إلي حرب ثأر مع الجهاز الأمني الذي تطالب عصابات المطاريد برحيله عن سيناء واستبداله بأجهزة أخري…وهو إعلان ولاء وتحييد لأجهزة في الدولة، وإشارة إلي فشل الشرطة في تحقيق الأمن بعد أن انتقلت المواجهات مع الدوريات الأمنية إلي محاولة تفجير خط الغاز العربي. الشرطة في الواقع تتعامل بنفس ثقافتها في بقية المدن المصرية، وتحتجز نساء البدو لإجبار الهاربين علي تسليم أنفسهم، وهو ما يعتبره البدوي إهانة لمحرماته واعتداءً علي كرامته. هذا سر عداوة تكبر مع الزمن بين الشرطة والبدو، دفعت عناصر مخلصة مثل سالم لافي، استخدمته الأجهزة الأمنية في فرض نفوذها، إلي التمرد والهروب من سيارة الشرطة، ليصبح أسطورة تعيد إلي الذاكرة المصرية سيرة أدهم الشرقاوي قاطع الطريق وابن الليل الذي أنشد المداحون بطولاته في مواجهة الإنجليز والإقطاع قبل الثورة. المخبر في دكرنس لم يسمع عما يحدث في سيناء، وبالتأكيد لم يعرف قصة خالد سعيد، ولا النهاية الذكية التي أُديرت بها ليحمل المخبرون نصف الجريمة ويشعر المجتمع بنصف انتصار علي مؤسسة التعذيب. النصف الآخر اشتركت فيه كل سلطات الدولة من مؤسسات «الجهات السيادية» إلي مصلحة الطب الشرعي للدفاع عن مصداقية جهاز الأمن. المؤسسات قدمت شهاداتها لتثبت أولاً أن الموت تم بإسفكسيا الخنق، وثانياً أن القتيل ليس فوق مستوي الشبهات..ليصبح ماحدث لـ«خالد سعيد» مجرد استعمال قسوة وليس قتلاً في الشارع. إدارة ذكية أقلقت مؤسسة التعذيب، لكنها لن توقفها عن غوايتها في القتل. وهوايتها في فن صناعة المطاريد.