كتب منير فاشة *
عملت في مجال التربية والتعليم ما يقارب من الأربعين سنة. ولعل الاقتناع الذي نمى وتعمّق في داخلي أكثر من غيره خلال تلك الفترة هو أن الهزيمة الحقيقية هي التي تحدث داخل الإنسان، على الصعيد النفسي الإدراكي: عندما يعتقد شخص أن ما لديه ليس له قيمة، وأن جلّ ما يستطيع عمله هو تقليد الآخرين واللهاث وراء رموز تعطيه قيمة مصطنعة ومزيفة وخارجية ، ولعل أنجع وسيلة لإلحاق مثل هذه الهزيمة هي سلب الشخص كونه بانيا للمعنى واعتباره مستهلكاً لمعانٍ جاهزة يبنيها آخرون. ويشكّل اتباع جواب أو نموذج جاهز – خاصة ما يدّعي منها صفة العالمية – أكثر الوسائل فعالية التي اتخذها "حصان طروادة" على مر العصور لهزيمة شخص أو شعب من الداخل، سواء أكان ذلك على شكل "حقيقة" في الرياضيات أو على شكل نظرية في التربية أو على شكل إعلان عالمي لحقوق الإنسان ) ….. ويقودنا هذا إلى عبارة تتردد كثيرا هذه الأيام، وذلك كمثل على ما أود توضيحه، هي عبارة: "حرية الفكر والتعبير". من أهم ما وعيته خلال عملي في التربية، عبر أربعة عقود، هو ضرورة التمييز بين حرية الفكر والتعبير من جهة وتحرير الفكر والتعبير من جهة أخرى، وكيف صادرت حرية الفكر الفكر الحر، وكيف صادرت حرية التعبير التعبير الحر؛ وضمن نفس المنطق، كيف صادر الحق في التعليم الحق في التعلم – وشتان بين الاثنين. فإذا كان، مثلا، كل ما هو معروض من أفكار ملوثاً، لا معنى عندئذ للقول بحرية الفكر. يكون الوضع عندها مثل إعطاء الحرية إلى شخص ليختار ما يود أن يأكله من مائدة، كل ما عليها طعام مزوّر، مثل التشيبس والكولا ولحمة مكونة من هرمونات. والغالب في العصر الذي نعيشه، أن حرية الفكر والتعبير تخدش السطح في أفضل الأحوال، بينما من الصعب أن يحدث تحرير في الفكر أو التعبير إلا في العمق. إن هذا التمييز هام جدا إذا أردنا أن يلعب "الملتقى التربوي العربي" ومشروع "قلب الأمور" دوراً ذا معنى في الوطن العربي على مختلف المستويات. ف"الملتقى" و"قلب" هما أولا وقبل كل شيء فسح لتحرير الفكر والتعبير وليس فقط فسحا حرة لهما.
إن تحرير الفكر والتعبير يعني أن نبدأ بالحياة لتكون المنطلق والموضوع والمرجع والمعيار والغاية فيما نعبر عنه وما نفكر فيه وما نفعله؛ ويعني إعادة النظر في المفاهيم والمدارك والقيم وفي العلاقات مع المحيط الذي نعيش فيه. من هنا، يشكل التأمل والتعبير والتناقش وبناء العالم الداخلي للأشخاص والنسيج مع المحيط الاجتماعي والطبيعي أهم عامل في تحرير الفكر والتعبير من الأيديولوجيات المخدِّرة السائدة، وإعادة ربطهما بالحياة والتجارب والخبرات والمحيط والواقع كما يعيشه الناس. وهذا يعني بوجه خاص التفكر في معاني الكلمات التي نستعملها، على ضوء تفاعلنا مع الناس والطبيعة، وعلى ضوء تجاربنا وخبراتنا ومناقشاتنا وقراءاتنا، وبشكل يتوافق مع القيم والمبادئ التي نختار أن نسير بموجبها. إن تحرير الفكر والتعبير يعني الخروج من الأطر الفكرية التي تأسرنا ضمن تصنيفات وهُويات ضيقة وصغيرة ومشوِّهة؛ هو استعادة للقدرة على إعطاء معان للمصطلحات المتداولة وإيجاد بدائل للمعايير السائدة وللحلول والنماذج المستعملة. سأختار بعض الأمثلة لتوضيح الفرق.
عندما أغلقت إسرائيل المدارس والجامعات الفلسطينية في بداية الانتفاضة الأولى (عام 1987)، ولمدة تجاوزت الأربع سنوات، كجزء من محاولتها شلّ المجتمع الفلسطيني، نشأ جراء ذلك الإغلاق نوعان من ردّ الفعل لدى الفلسطينيين. كان النوع الأول عبارة عن عقد مؤتمرات للاحتجاج على الإغلاق والمطالبة بفتح المدارس والجامعات، أما النوع الثاني فكان قيام الناس بتعليم الأطفال والطلبة في الأحياء والبيوت. لقد أبرز تعامل إسرائيل مع النوعين من رد الفعل التباين الهائل بين الاحتجاج والشكوى والمطالبة بالحقوق من جهة، وقيام الناس بعمل ما يلزم عمله من جهة أخرى. لم تعترض إسرائيل على عقد مؤتمرات للاحتجاج والمطالبة، كما لم تعترض على سفر أشخاص من الضفة الغربية وقطاع غزة للمشاركة في مؤتمرات عالمية للغرض نفسه. ولكنها واجهت التعليم في البيوت والأحياء بشراسة لا مثيل لها، فقد كان الأمر العسكري في شهر آب/أغسطس 1988 من أقسى الأوامر العسكرية، إذ كان يقضي بمنع مثل هذا التدريس (كما بمنع الزراعة الجماعية) بحيث يتعرض كل من يخالف ذلك الأمر إلى هدم بيته وإلى سجنه مدة قد تصل عشر سنوات! إن عقد مؤتمرات والمطالبة بحقوق هو مثال على حرية التعبير والفكر، والذي عادة لا يقدّم ولا يؤخر. بينما، في المقابل، يشكل قيام الناس بأعمال ضرورية في حياتهم وفي المجتمع، دون انتظار، ودون الترجي والمطالبة، ودون تقديم شكاوٍ وتوصيات، هو مثال على تحرير التعبير والفكر معاً. وشتان بين الثرى والثريا!
وكثيرا ما يستبطن التركيز على حرية الفكر والتعبير وإهمال تحريرهما زيفا خطيرا مغلفا بأغلفة براقة. أن نسمي الخداع، مثلا، علماً ندرّسه في كليات التجارة في "أرقى" الجامعات تحت اسم "التسويق" هو نوع من الزيف المبطّن وهو مثال على حرية التعبير والفكر وليس على تحرير التعبير والفكر. وكذلك الحال عندما نشير إلى الكولا من المشروبات الخفيفة، فتلك التسمية مثال على حرية التعبير، بينما إعادة تسميتها ب"مياه ملوّثة" هو مثال على تحرير الفكر والتعبير معاً. إن التذكير بضرورة نظافة العالم الداخلي للإنسان (المعدة والأمعاء) من محتويات علبة كولا وعدم التركيز فقط على نظافة البيئة الخارجية (بعدم رمي العلبة) هو مثال آخر على تحرير الفكر. كذلك، فإن استعمال كلمة "نكبة" لوصف ما حصل للفلسطينيين عام 1948 هو مثال آخر على حرية التعبير واستعباد الفكر في نفس الوقت. إذ أن ما حدث لم يكن نكبة بنفس المعنى الذي نستعمله لوصف نكبة طبيعية مثل زلزال، بل كان البدء في عمل منظم لمحاولة تحطيم شعب، ما زال مستمرا حتى الآن منذ 52 سنة! ويشار إلى مثل هذه المحاولة في كل لغات العالم بجريمة مدبرة ومنظمة، وليس بنكبة. كذلك الحال بالنسبة لترجمة الإعلان العالمي بتعبير "حقوق الإنسان" بدلا من "الحقوق الإنسانية" كما هو الحال في اللغات الأخرى. من الواضح أن المترجم لم يكن بريئاً. فالتعبير الأول يُفهم منه جميع الحقوق بينما الثاني يعني أن هناك حقوقاً أخرى.
إن إعادة تسمية المسميات وإعادة تعريف الكلمات والتفكير بمعايير بديلة، هو من أهم مظاهر التعلم والتحرر والبناء، إذ يدخل في نطاق تحرير الفكر والتعبير وليس فقط حرية الفكر والتعبير. وتحرير الفكر والتعبير منسي في الإعلان العالمي لأن ذلك يعني، أولا وقبل كل شيء، تحرير فكرنا وتعبيرنا من الكلمات والمفاهيم المستعملة في الإعلان العالمي نفسه. من الضروري إعادة النظر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من وجهة نظر الأغلبيات الاجتماعية في العالم والتي أهملها الإعلان وسلبها من حقوقها الحقيقية. إذ يعلمنا الإعلان العالمي أن الحقوق ثلاثون ليس بينها حق الشعوب في مواردهم الطبيعية! ولعل أهم الحقوق بالنسبة لأغلبية الناس في العالم هو حق الإنسان، كل إنسان، وكل شعب في الموارد الطبيعية في الموقع الذي يعيش فيه، وبشكل خاص الأرض والماء. إن تغييب الأوربيين والأمريكيين لهذا الحق أمر مفهوم (فقد سرقوا أربع قارات ونهبوا خيرات ستة، وما يزالون)، أما أن ننسى نحن هذا الحق فهو أمر غير مبرر ولا يمكن تفسيره إلا عن طريق حالة تخدير خطرة، تكوّن أهم خاصية لعصر التنمية. كذلك، فإن من بين الحقوق الجوهرية المهملة في الإعلان (وهو حق أقرب ما يكون من البديهيات في الحديث عن الحقوق) هو حق الناس في مناقشة الإعلان قبل نشره، ما دام أنه سيُعلن باسمهم. إلا أن ذلك لم يحصل، إذ تمّ إعلانه باسم الناس جميعاً دون استشارة الناس! من الصعب التفكير في حالة احتقرت البشر أكثر من هذا. كذلك، يهمل الإعلان الحق في التعلم ويستبدله بالحق في التعليم، وهو استبدال لا يمكن أن ينمّ عن براءة. فالحق في التعلم يعني توفير إمكانات ووسائل ومساحات وفرص وأجواء عديدة ومتنوعة تساعد الناس على التعلم (كما كان جو قرطبة مثلا قبل ألف عام) ولا يمكن أن يعني إجبار الأطفال على الذهاب إلى مدارس تهمل الحياة إهمالا شبه كلي وتنمي في الأطفال قيماً تقتل النفوس وتخنق العقول وتربي مشاعر عداوة وكراهية، مثل قيمة التنافس على رموز ومثل تصنيفهم إلى أذكياء وأغبياء وإلى ناجحين وفاشلين. إن فكرة وجود نفس المنهاج ونفس الإطار لكل الطلبة هي فكرة مريبة على أقل تقدير. كذلك، فإن إعطاء شهادات رسمية إلى طلبة في الثامنة عشرة من العمر تشهد على الملأ بأنهم فاشلون قبل أن يدخلوا الحياة، وذلك بناء على امتحان لا يقيس شيئا ذا قيمة حقيقية هو أمر لا يمكن تبريره إلا في حالات متقدمة من التخدير. كذلك، يهمل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقية الطفل حق الأطفال في حمايتهم من كل أنواع التلوث المصبوبة باستمرار داخل عقولهم ومعداتهم ونفوسهم، مثل المأكولات والمشروبات والمناهج وبرامج الترفيه، والمليئة جميعاً بالسم البطيء. وهذا أيضا أمر مفهوم إذا تذكرنا أن العديد من برامج التدريب على الإعلان مدعومة من قبل منتجي مواد التلويث هذه. وأخيراً وليس آخراً، ماذا عن الحق في التنوع والذي يقتله الإعلان في كل ناحية من نواحي الحياة تقريبا، بما في ذلك التنوع في مفهوم الحقوق نفسه؟! إن تحرير الفكر والتعبير يعني أن نستعيد التنوع في مفاهيم الناس والشعوب وفي طرق معيشتهم، بما في ذلك ما يتعلق بالحقوق نفسها، وليرافق ذلك حوارات ونقاشات، تبني توجهاً وفكراً جماعياً باتجاه حقوق مشتركة، بشكل طبيعي لا قسري فوقي كما هو الحال عليه الآن. فنخرج بإعلان جديد من صنع الناس، قوامه احترام التنوع في المجتمعات البشرية واحترام حق الشعوب في مواردها واحترام الطبيعة. ولعل أسوأ وأشهر حالة شهدها العالم عبر التاريخ هي حالة سكان أمريكا الأصليين الذين ما يزالون يدفعون أتعاب المحامين منذ فترة طويلة جدا لاسترجاع أراضيهم دون أن يكسبوا دعوى واحدة! إذ يشكّل رفع دعاوٍ في المحاكم، مثالا على حرية التعبير والفكر وليس على تحريرهم