من يحيي مسرحا نقش حكايات بغداد فوق خشبته؟
سمع الكثير يوميا عبر الفضائيات وما جاورها من وسائل الإعلام، حول تأهيل الكثير من المعالم الثقافية والفنية في العراق، وهي مبادرات غاية في الأهمية، تستحق التقدير. فمن إعلان الشروع بإعادة تأهيل [مسرح الرشيد] [قرة عين المسرحيين العراقيين] _ هكذا يطلق عليه المسرحيون اعترافا بفضله علي عروضهم بما كانت تحمل تقنياته من احترام لها _ . وأخري في نوايا تنشيط [منتدي المسرح] وهو فعل لا يقل أهمية عن سابقته. وهناك مقترح يستحق الإشادة، في استحداث (جوائز الإبداع في الفنون والثقافة).. وغيرها الكثير بالتأكيد. وكلها مطالب تسعي إلي تأهيل مؤسسا ت تتبع للدولة. أي بمعني آخر أننا ننتظر أيضا إلي بادرات إعادة تأهيل المؤسسات خدمت الناس لكنها غير حكومية. كإعادة تنشيط الفرق المسرحية الأهلية وهي أكثر من 14 فرقة قدمت خدماتها للثقافة والفنون بعناء شخصي من قبل القائمين عليها. كما ونذكر بتجربة تستحق التقدير في تجربة تكاد تكون الفريدة في العراق والمنطقة وهي [ تأسيس معهد أهلي ] بجهود أفراد مثل تجربة [ معهد بغداد للمسرح التجريبي]، الذي نشط في سبعينات القرن الماضي وبجهود فردية. ولا أدري لماذا تناسي القائمون علي منجز احترام الكيانات الفنية التي أدت فعلها بكل شرف قد تناسوا بعض من المعاقل الرصينة التي كان لها فضل التعريف بهوية الثقافة العراقية والمسرحية بشكل خاص. يوم كانت [فرقة المسرح الفني الحديث] الصدي الأول الذي عرف العالم بالمسرح العراقي حين انطلق به إلي خارج أسوار العراق. يوم كانت الفرقة المسرحية الأولي التي خصها الباحثون من طلبة الدراسات العليا ببحوثهم فقدموا بها أطاريح الدكتوراه والماجستير لسمو تجربتها وعمق تأثيرها في الساحة الداخلية والخارجية بما قدمته من التجارب التي تستحق الدراسة.
مسرح بغداد
إنها الفرقة الأولي التي امتلكت مسرحا خاصا بها [مسرح بغداد] الذي قدمت فيه عروضها وعروض فرق أخري. مسرح بغداد الذي حظي بشرف كبار المثقفين من شعراء وفنانين من أمثال: [ الجواهري] و[البياتي] و[فيروز والرحابة] وأسماء كبيرة وكثيرة في عالم الفن والثقافة والسياسة والاجتماع، والاقتصاد، يكفي أن يكون [ جواد سليم ] قد صمم شعارها!! و[إسماعيل الشيخلي، وكاظم حيدر ] قد صمموا لها الديكورات والملابس والإضاءة وتلتهم أسماء غاية في الأهمية لا أذكرها ، بسبب ضرورة ذكر الجميع ان ذكرت واحدا. يكفي أن يكون من روادها [إبراهيم جلال، يوسف العاني، جاسم العبودي، سامي عبد الحميد، خليل شوقي، زينب، ناهدة الرماح، زكية خليفة، مي شوقي، آزادوهي صموئيل، روميو يوسف، مجيد العزاوي… ومئات الأسماء بذات القيمة والوزن مرت علي تعدد الأجيال ]. لذلك وجدت بأن اسم [مسرح بغداد] الذي احتضن [فرقة المسرح الفني الحديث] ما يزيد علي الأربعين عاما، أهل لأن يعاد له بريقه، بل واحدة من المسؤوليات الشريفة في السعي لإعادة تأهيله. فان في إحياء فرقة المسرح الحديث إنما هو سعي في خلق المنافس لفرقة الدولة الرسمية [الفرقة القومية] كي يتعاونان علي تقديم أفضل الانتاجات التي تليق وترتقي بحركة المسرح العراقي وتجعله باقيا بشموخه، واحدا من أهم الحركات المسرحية في العالم.
آن الأوان، في مطالبة الدولة والحكومة ومجلس النواب، وكافة أصحاب القرار بالسعي لصيانة المسرح، ولا نغالي إن قلنا شراؤه، وهو ليس بالأمر العسير، وتمليكه إلي الجهة ذات الشأن، وأقصد فرقة المسرح الحديث. الفرقة التي خرجت أجيالا من الفنانين الملتزمين والداعين إلي حركة مسرح عراقي مشرفة، تقف بزهو أمام اعتي النزعات المسرحية في المنطقة والعالم. ندعو إلي ترميم ما تبقي من تلك الفرقة: أشخاصا، وكيانات، معنوية والأهم أطلالها. آن الأوان لأن تعود هذه الفرقة إلي سابق عهدها تخدم الحركة الفنية والثقافية بتقديم عروضها علي هذا المسرح. ولكي يطلع من لا يعرف فرقة المسرح الفني الحديث، ولا مسرحها [ مسرح بغداد ]، إليه هذه النبذة الموجزة والسريعة عن بعض تاريخها:
في 3 نيسان 1952 تأسست فرقة المسرح الفني الحديث، وقد أضفي هذا التأسيس دفعا للحركة المسرحية العراقية، انطلاقا من تفردها عن ما كان سائدا من أشكال مألوفة وتقليدية نوعما – وهو الأمر الذي وضعها في الموقع الذي تستحقه. انطلقت في المضامين والأشكال التي اعتمدتها من المجتمع، كان التفكير بتأسيس [ فرقة المسرح الحديث ]، حين انطلق إبراهيم جلال بطلب إجازة للفرقة من الجهات المسؤولة آنذاك وهي ( وزارة الداخلية – الجمعيات ). وتمت الموافقة علي الإجازة بنفس التاريخ الذي أشرنا إليه 3 نيسان 1952 . وتشكلت إدارتها من مؤسسيها وهم : إبراهيم جلال – رئيسا، يوسف العاني – سكرتيرا، عبد الرحمن بهجت – محاسبا، يعقوب الأمين – عضوا .
ومن أهم أسباب تميزها في البدايات، أنها بنت مسرحا من الطين والخشب في مقر جمعية النداء الاجتماعي سابقا في منطقة الأعظمية. وكانت ألأولي فصولا من مسرحيات عالمية وعراقية منها : عطيل – لوليم شكسبير / المثري النبيل و الطبيب رغما عنه – لموليير / عودة المهذب – وماكو شغل – ليوسف العاني وشهاب القصب / وراس الشليلة – ليوسف العاني . وانتقلت من تقديم مسرحيات عالمية معرقة أو معدة إلي مسرحيات عراقية خالصة وهي بادرة أخري تحسب لها في التمييز بداية هامة في انطلاقة المسرحية العراقية للصعود علي خشبة المسرح. مثلما رفدت الحياة المسرحية العراقية بعدد من الشباب الطموح الذي صاروا فيما بعد رجالات المسرح العراقي باقتدار.
لذلك سعت الفرقة إلي أهدافها التي حددتها – حسب ما أوردته في الكراس الذي أصدرته بمناسبة يوبيلها الفضي 1952 – 1977، التي أكدت ما يلي :
حاولت الفرقة تقديم المسرحية العراقية وتطويرها .كانت السباقة في تقديم المؤلف المسرحي الجديد وتشجيعه .الالتزام بالجانب الاجتماعي والسياسي .تقديم بعض المخرجين من أعضائها الممثلين .منح الفرص للممثلين بالاشتراك في أعمالها .تعميق الوعي الجماهيري بالثقافة المسرحية وقيمها الفكرية والجمالية . لقد تميزت فرقة المسرح الفني الحديث بأنها نقلت لغة المسرح نصا وأسلوب عرض [من] التقليدية الموغلة بالتبسيط، ومن مجرد العروض التي تقدم كإسقاط فرض في كونها مسرح show، [إلي :
) رحاب المسرح الملتزم ذو الأصول المعاصرة لغة والتزاما وتوازنا وأسلوب تفكير ، الرافض لكل ما هو سائد ومكرور . وهو ما جعلها قريبة من الناس بأنواعهم ، حاكتهم بمختلف ثقافاتهم فأصبح لها جمهورها الخاص والمعرف باسمها [جمهور الحديث .
) يضاف لها فضل الخروج بالمسرح العراقي إلي الخارج ، وبهذا كانت أول فرقة مسرحية خرجت بالمسرح إلي خارج العراق بمشاركات مسرحية رسمية وغير رسمية . ) وقدمت سلسلة من التجارب وفق نظام تكاملي واكتفاء ذاتي . فلم تستعن بالطاقات من خارجها إلا ما ندر وعند الضرورات القصوي .
) أثرت بإيجابية علي أجيال من المسرحيين ممن توارثوا نهجها وتقاليدها في تراتبية منهجية وتربوية جيلا بعد جيل وفي كل التخصصات .
النخلة والجيران
إن المسرحيات والنهج الذي سارت عليه فرقة المسرح الفني، كانت أساس التكوين لأجيال من المسرحيين. ومثلما مسرحية [المفتاح] التي تركت أثرها الكبير علي مسيرتنا في الفرقة، وما تركته من أثر حفز المسرح العراقي كي يسعي إلي التغيير والنهوض بالحركة المسرحية العراقية بشكل عام ، كذلك كانت مسرحية [النخلة والجيران] التي لاتختلف في نهجها عن الذي اختطته الفرقة مسرحيا. فكانت هي الأخري ذات أثر كبير وهام، بل وشكلت انعطافه هامة خلقت تحولا في نوع المسرح وفهمه عراقيا وعربيا. بما حملته من السمات الواقعية مضمونا، وشكلا، وفكرا إنسانيا، لقد كانت بمستوي التماعات معاناتنا، ومعاناة الروائي غائب طعمه فرمان، وبمستوي استعداد قاسم محمد الذهني والفني والنفسي، حين [ تحزم ] لها ومنذ أيام دراسته في موسكو، متعاونا في إعدادها مع كاتب الرواية فكانت فعلا باكورة أعمالهما الكبيرة في المسرح وزادت من وضع فرقة المسرح الفني الحديث في المقدمة، وعلي رأس رمح الحركة المسرحية العراقية باتجاه العالمية – فالعالمية تبدأ من المحلية العالية أولا – والـ [النخلة والجيران] كانت مسرحية محلية عالية المستوي. تلتها مسرحية [تموز يقرع الناقوس] تأليف: عادل كاظم – وإخراج : سامي عبد الحميد لذات الفريق الكونكريتي المتماسك. تلتها سلسلة من المسرحيات بذات الأهمية مثل: [الشريعة]، و[الخان وأحوال ذلك الزمان]، و[القربان]، و[أضواء علي حياة يومية]، و[ رحلة الصحون الطائرة]، و[بيت برنا رد ألبا]، و[الخيط]، و[شلون ولويش والمن]، و[ولاية وبعير]، و[الملا عبود الكرخي].. وسواها. ولا يفوتنا ما تأسس في فرقة المسرح الفني الحديث، من تقاليد وأعراف أصبحت بمرور الزمن أعرافا عريقة. ولابد من التنويه إلي إننا لم نذكر كل ما قدمته الفرقة من أعمال مسرحية، فلقد سبق هذه السلسة التي ذكرناها من العروض مثلما تلاها، طابور آخر أكبر من هذا العدد من المسرحيات كانت حصيلة تجربة فرقة المسرح الحديث في العراق منذ قيامها وحتي توقفها القسري.
الصرخة الأخيرة: هي دعوة إلي من يهمه أمر الفرقة باعتبارها ركنا هاما من أركان الثقافة العراقية، أن يجدوا لها الوضع الملائم من حيث توفي المقر الملائم لها وتكون واحدة من المؤسسات الهامة في الوطن يشفع لها في ذلك تاريخها وأثرها البالغ الأهمية الذي لا يقل شأنا وقامة عن كل الرموز الكبيرة في ثقافة العراق: علي شاكلة الجواهري، وفرقة المسرح الفني الحديث.
أ.د فاضل خليل
نقلا عن مدونة ملتقى فنانين ذي قار
للإطلاع على التدوينة في محلها الأصلي: